رمضان.. لمّة حلوة وعبادة وروحانيات جميلة.. بعيداً عن أبي!
ذا ما سألت أحدهم عمَّا يمثّله رمضان بالنسبة له، قد يُسارع بقوله:
"رمضان ما يبقاش رمضان إلا باللمّة الحلوة.. يعني تجمّع الأهل والأصحاب في
بيت العيلة على مائدة الإفطار"، في حين يرى البعض الآخر أن "رمضان هو شهر
العبادة.. يعني صوم وصلاة تراويح وقراءة قرآن، وغيرها من الروحانيات
الجميلة". أما عن -وللأسف الشديد- الأغلبية منّنا الآن، فبات رمضان
بالنسبة لهم "مسلّسلات رمضانية وأكل كل ما لذّ وطاب، ونوم متواصل بالنهار،
ناهيك عن الخيم الرمضانية وشرب الشيشة والذي منه"..
في حقيقة الأمر، ولسنوات عديدة ماضية، كنت لا أحب مجيء رمضان، نعم
صدقوني كنت وأنا صغير ابن العاشرة وحتى العشرين تقريباً، أرتعد من فكرة
اقتراب الشهر الكريم، هذا لا يعني بالضرورة أنني كُنت مُلحداً وشيطاناً
بقرنين أعيث في الأرض فساداً، بل على العكس تماماً، فأنا أحافظ على الفروض
جميعها وأصوم وأصلي وما إلى ذلك، ولكن فكرة التخوّف من مجيء الشهر الكريم
(وهو التعبير الأقرب بعيداً عن كلمة كره أو عدم حب لا سمح الله) كان
مرجعها شخص واحد فقط...
أبي أطال الله في عمره!
قد يتبادر إلى ذهن البعض، كيف يجعلك والدك تخاف من مجيء شهر رمضان عليك؟! تأتي الإجابة على لساني وعلى لسان إخوتي ووالدتي:
"أصلكم متعرفوش بابا بيبقى عامل إزاي في رمضان"!
إحقاقاً للحق، والدي وبشهادة الجميع وأولهم نحن أبناؤه، رجل طيب الخلق
يخاف الله في جميع تصرفاته، يصلي ويصوم وبارّ بأمه إلى أقصى حد، ويعامل
مرضاه -بوصفه طبيباً للأسنان- معاملة حسنة فلا يبخل عليهم بنصيحة أو ما
إلى ذلك..
إذن، ما الأمر؟!
أقول لكم ما الأمر، والدي كان يشرب القهوة
والسجائر بشراهة غير طبيعية، ففي اليوم الواحد قد يشرب أكثر من خمسة
فناجين قهوة مركّزة، وما يقرب من ثلاث علب سجائر بأكملها، لذا ففي نهار
رمضان، يمتنع بطبيعة الحال عن تناول أيٍّ منهم، مما يجعله "قنبلة موقوتة"
توشك على الانفجار، أو إعصاراً مهولاً يستعد للقضاء على الأخضر واليابس!
فأنا أكاد أذكر من عشرة أعوام تقريباً، كيف كُنا نقضي نهار رمضان،
والدي نائم معظم الوقت، ويصحو لصلاة الظهر أو العصر، وكان لعلمه بطبيعته
الصعبة في نهار رمضان، كان يختزن معظم إجازات العام، ليأخذها جميعاً في
رمضان؛ فقلما كان يذهب إلى المستشفى صباحاً في نهار رمضان، أو هكذا كان
يُخيّل إلينا، وفي تلك السويعات القليلة التي كان يصحو فيها من نومه، كان
يتعمد بشتى الطرق استفزاز كل فرد من أفراد العائلة، فأنا أذكر أنه كان
يبحث عن مقص ضائع يخصّه، فظل يُجنّد كل أفراد العائلة للبحث عنه، بمن فيهم
والدتي التي كانت منهمكة في عمل الطعام، مع ثورة وغضب و"زعيق" وشخط ونطر
والذي منه! أما عن المعتاد، فكان أبي يعدُّ بنفسه بعض الطعام، مثل السلطة
تحديداً، وقبل الأذان بحوالي ثلاث ساعات أو ساعتين، ثم يبدأ في تجهيز
المائدة قبل الأذان بساعة أو يزيد، ويضع عليها الطعام في انتظار المدفع..
وإذا تجرأ أحدنا على تذكيره بأن الأذان لن يُرفع قبل ساعة، إذن فهي الطامة
الكبرى! وإذا كان أحدنا نائماً، يتولى استيقاظه قبل الأذان بساعتين
لمساعدته في إعداد الطعام، وما إلى ذلك...
كلها أمور كانت تضايقني وتضايق باقي الأسرة، مع العلم أن أبي كان يتحول
بعد الإفطار إلى شخص آخر، يعود إلى سيرته الأولى -إذا جاز التعبير، وإذا
"زعّل" أحدنا قبل الإفطار، كان يُسارع إلى مصالحته بكافة الطرق.
والحمد لله، أقلع والدي منذ عام أو أكثر بقليل عن التدخين وشرب القهوة،
بعدما قام بعمل عملية "فتق" بسيطة، ولكنها سبّبت له آلاما كبيرة، بعدما
أفاق من المُخدّر، ومن يومها أقلع عن شرب تلك السموم نهائياً..
وعلى الرغم من أنني الآن بات عندي أسرتي الخاصة من زوجتي فضلاً عن
(الأستاذ "حمزة" الذي لم يبلغ ستة أشهر بعد)، مما يعني استقلالي عن أبي
وأمي وإخوتي، إلا أن طيف رمضان "المرعب" بالنسبة ليّ وأنا صغير ما زالت
ذكرياته تحوم في ذهني من حين لآخر!
عموماً.. كل عام وأنتم بخير، وأتمنى أن يكون رمضان هذا العام شهر عبادة ولمّة حلوة وروحانيات جميلة لكم جميعاً.